الدعوى الجزائية
مقدمة
تُعرَّف الدعوى الجزائية بأنها مطالبة النيابة العامة للقضاء الجزائي بالفصل في خبر جريمةٍ نُسبت إلى شخصٍ معيّن، والحكم بإدانته عند ثبوت نسبتها إليه أو ببراءته عند انتفاء مسؤوليته عنها.
تتولى النيابة العامة سلطة التحقيق والتصرف والادعاء في الجنايات، كما يتولى محققو وزارة الداخلية سلطة التحقيق والتصرف والادعاء في الجنح وفق ما نظمه قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية.
تمثل النيابة العامة العمود الفقري في مرحلة الإجراءات الأولية، إذ تباشر الدعوى العمومية باسم المجتمع، وتشرف على أعمال الضبط القضائي، وتحرص على تطبيق القوانين الجزائية، وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام.
ترتبط كل جريمة منصوص عليها في قانون الجزاء باعتداء على النظام الاجتماعي؛ فيترتب للدولة حق توقيع العقاب عبر الدعوى الجزائية. وقد ينشأ — إلى جانب الدعوى الجزائية — حق مدني للمتضرر (أو ورثته) يهدف إلى التعويض وجبر الضرر عبر الدعوى المدنية.
ورغم أن الأصل عدم تقييد سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى الجزائية، فقد وضع المشرّع — لاعتبارات محددة — قيودًا استثنائية على التحريك، تمثلت في الشكوى والطلب والإذن.
وتنقضي الدعوى الجزائية لأسباب بينها: وفاة المتهم، والصلح في مواضعه، والتقادم، وغير ذلك مما نص عليه القانون.
تقسيم عام
- المبحث الأول: الدعوى الجزائية.
- المبحث الثاني: قيود تحريك الدعوى الجزائية.
- المبحث الثالث: انقضاء الدعوى الجزائية.
المبحث الأول: الدعوى الجزائية
الدعوى الجزائية هي وسيلة المجتمع لحماية أمنه واستقراره وصيانة مصالحه من خطر الجريمة، بالتعرف على الفاعل ومحاكمته وتنفيذ العقوبة عند ثبوت الجرم. وتستوفي الدولة حقها من الجاني عبر الدعوى العمومية، بينما يطالب المجني عليه المتضرر بتعويض عادل عبر الدعوى المدنية التابعة.
المطلب الأول: مفهوم الدعوى الجزائية
تُعَرَّف الدعوى الجزائية بأنها حق الدولة — ممثلة في سلطة الاتهام — في ملاحقة مرتكب الجريمة وتقديمه للقضاء لتوقيع الجزاء الجنائي عليه. وتبدأ من لحظة وقوع الجريمة، ولا يتوقف وجودها على مباشرة إجراءٍ بعينه؛ إذ إن تقادمها يُحتسب ابتداءً من وقوع الفعل.
الدعوى الجزائية — بهذا المعنى — هي المطالبة بالحق عن طريق القضاء. وهي تختلف عن “الخصومة الجزائية” التي تشمل جميع الإجراءات المتخذة بعد تحريك الدعوى وحتى صدور حكم بات أو انقضائها بأسبابها القانونية.
لا تتحقق مصلحة المجتمع بإدانة الأبرياء ولا بإهدار الحريات؛ لذا ينبغي أن تظل الدعوى مقيدة بهدف الوصول إلى الحقيقة: تبرئة البريء ومعاقبة المجرم الحقيقي. فإذا تهاوت الأدلة أثناء السير في الدعوى، وجب على الادعاء العام طلب البراءة أو طرح الأمر للمحكمة.
الفرع الأول: الدعوى الجزائية والدعوى المدنية والعلاقة بينهما
تنظر المحاكم الجزائية الدعوى المدنية التابعة — عند توافر شروطها — وتحكم بالتعويض للمتضرر إذا ثبت الفعل المكوّن للجريمة. والأصل أن الدعوى المدنية تابعة للجزائية: فلا يُحكم بالتعويض إذا انتفت الجريمة أو قُضي بالبراءة لعدم قيام الفعل غير المشروع.
قاعدتان تحكمان العلاقة:
- الجزائي يوقف المدني: لا تفصل المحكمة المدنية في الدعوى الناشئة عن جريمة قبل صدور الحكم الجزائي في الواقعة منعًا لتعارض الأحكام.
- حجية الحكم الجزائي أمام المدني: إذا قضت المحكمة الجزائية بالبراءة لانتفاء التجريم، فلا يجوز للمحكمة المدنية أن تقضي بالتعويض عن ذات الواقعة المؤسِّسة للدعوى الجزائية.
الفرع الثاني: بدء الخصومة وتحريك الدعوى الجزائية
تتحرك الدعوى الجزائية باتخاذ أول إجراء من إجراءاتها (كتكليف المتهم بالحضور أو إحالة التحقيق)، وتمكّن هذا الإجراء المحكمة من نظرها؛ فلا تملك المحكمة تحريك الدعوى من تلقاء نفسها. أما إجراءات جمع الاستدلال فليست من إجراءات تحريك الدعوى.
تختص النيابة العامة بتحريك الدعوى في الجنايات، ويتولى محققو وزارة الداخلية ذلك في الجنح، مع منح المحاكم سلطة التصدّي في حالات محددة (كتجاوزات الجلسات) وفقًا للقانون.
المطلب الثاني: أطراف الدعوى الجزائية
تتكون الدعوى الجزائية من عدة أطراف رئيسية: المدعي (النيابة العامة أو محققو وزارة الداخلية)، المدعى عليه (المتهم)، المجني عليه (المدعي بالحق المدني)، والمسؤول عن الحقوق المدنية. ولا يشترط اجتماع جميع الأطراف في كل دعوى جزائية.
الفرع الأول: المدعي (النيابة العامة ومحققي وزارة الداخلية)
نصت المادة (167) من الدستور على أن النيابة العامة تتولى الدعوى العمومية باسم المجتمع وتشرف على شؤون الضبط القضائي وتحرص على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام.
وتباشر النيابة العامة هذا الاختصاص في الجنايات، بينما يباشره محققو وزارة الداخلية في الجنح، وفقًا للأوضاع التي يحددها القانون. ويُعد حق النيابة العامة حقًا مجردًا؛ فلا يُحكم عليها بمصاريف الدعوى عند البراءة، بخلاف الدعوى المدنية التي يتحمل فيها المدعي الخاسر المصاريف.
الفرع الثاني: الجاني (المتهم)
المتهم هو كل شخص تقيم النيابة العامة أو محقق وزارة الداخلية الدعوى الجزائية ضده. وتنتهي صفة المتهم بصدور قرار بحفظ الدعوى أو حكم بات بالبراءة، أما إذا صدر حكم بات بالإدانة تحل صفة المحكوم عليه محل المتهم.
يشترط أن يكون المتهم معينًا بذاته وأن يكون حيًا وقت إقامة الدعوى، إذ تنقضي الدعوى بوفاته. كما يجب أن يكون أهلًا للمسؤولية الجزائية؛ فلا ترفع الدعوى على من انتفت لديه الأهلية (كفاقد التمييز أو المصاب بمرض عقلي يحول دون الدفاع عن نفسه).
الفرع الثالث: المجني عليه
المجني عليه هو الشخص الذي وقعت الجريمة على شخصه أو ماله أو حقوقه المعنوية. ويُعرف المدعي بالحقوق المدنية بأنه كل من لحقه ضرر من فعل غير مشروع يحق له تحريك الدعوى المدنية التابعة أمام المحكمة الجزائية.
يجوز للمجني عليه أو من يمثله قانونًا رفع دعوى بالحق المدني أمام المحكمة الجزائية متى كانت تابعة للدعوى العمومية. ويجوز له كذلك التنازل عن الدعوى المدنية أو التصالح وفقًا للقانون.
الفرع الرابع: المسؤول عن الحقوق المدنية
هو الشخص الذي يسأل مدنيًا عن الضرر الناتج عن الجريمة، ولو لم يكن مرتكبًا لها. ويجوز إدخاله في الدعوى الجزائية للمطالبة بالتعويض، ويعتبر خصمًا منضمًا إلى المتهم أمام المحكمة الجزائية.
ويحق للمدعي المدني مطالبة المسؤول المدني بحقه أثناء التحقيق الابتدائي بطلب يقدمه للمحقق أو أثناء المحاكمة أمام المحكمة الجزائية.
المبحث الثاني: قيود تحريك الدعوى الجزائية
الأصل عدم تقييد سلطة النيابة العامة (أو المحقق في الجنح) في تحريك الدعوى الجزائية؛ غير أن المشرّع قرّر قيودًا استثنائية مراعاةً لاعتبارات خاصة، تتمثل في: الشكوى، الطلب، الإذن. ويترتب على تخلف هذه القيود — متى اشترطها القانون — بطلان الإجراءات وعدم قبول الدعوى لرفعها بغير الطريق القانوني.
المطلب الأول: الشكوى
أولاً: ماهية الشكوى وطبيعتها
الشكوى هي إعلان من المجني عليه (أو من يمثله قانونًا) برغبته في تحريك الدعوى الجزائية عن جرائم حددها القانون، لتعلّقها ابتداءً بمصلحته الخاصة. والقاعدة أن تعليق التحريك على الشكوى من النظام العام؛ فكل إجراء تحقيق يُتخذ قبل تقديمها يقع باطلًا متى اشترطها القانون.
العلة من الشكوى: تقدير المشرّع أن المجني عليه أقدر على موازنة ملاءمة تحريك الإجراءات في جرائم تمس اعتباره أو أسراره أو روابطه الأسرية.
ثانيًا: نطاق الجرائم التي تُعلَّق على الشكوى
- جرائم السب والقذف وإفشاء الأسرار.
- خطف الإناث.
- السرقة والابتزاز والنصب وخيانة الأمانة إذا كان المجني عليه من أصول الجاني أو فروعه أو كان أحد الزوجين.
- جرائم الزنا: أجاز التعديل تحريك الدعوى قبل الشكوى مع إبقاء حق الزوج المجني عليه في منع السير أو إيقاف التنفيذ وفق ضوابطه.
وتُقدَّم الشكوى ضد المتهم؛ وإذا تعدد المتهمون اعتُبرت الشكوى المقدمة على أحدهم ممتدة إلى باقي المساهمين. ويكفي — عند تعدد المجني عليهم — شكوى أحدهم. ويجوز تقديمها من الولي أو الوصي عند القُصّر، كما تجوز بالوكالة (وتكفي الوكالة العامة).
لا يحدد القانون الكويتي ميعادًا خاصًا لتقديم الشكوى متى لم تنقضِ الدعوى الجزائية بالتقادم أو بغيره؛ بخلاف القوانين التي تضع آجالًا قصيرة للشكوى.
ثالثًا: أثر الارتباط وتعدد المتهمين
إذا كانت الدعوى معلّقة على شكوى بالنسبة لمتهم معيّن، جاز تحريكها في مواجهة متهمين آخرين مساهمين، متى توافرت أدلة مساهمتهم. وفي حالة الارتباط بجريمة أخرى:
- ارتباط بسيط: يجوز تحريك الدعوى عن الجريمة المرتبطة غير المقيّدة بالشكوى (مثال: ضرب الأم عند اكتشاف سرقتها).
- ارتباط لا يقبل التجزئة: يجوز تحريك الدعوى عن الجريمة المرتبطة (مثال: سرقة مال من الأب لشراء مخدر وتعاطيه).
رابعًا: التنازل عن الشكوى وآثاره
يملك من قدّم الشكوى وحده حق التنازل عنها، ويُشترط تنازل جميع مقدّميها عند تعددهم. يمتد أثر التنازل إلى الجريمة المعلّقة عليها فقط. ويجوز التنازل كتابةً أو شفاهةً وفي أي مرحلة، ما لم يصدر حكم نهائي في الموضوع؛ فإذا صدر حكم نهائي ثم وقع تنازل ترتّب على ذلك إيقاف التنفيذ في الحدود التي رسمها القانون.
المطلب الثاني: الطلب
الطلب هو تعبير الجهة الإدارية المتضرّرة (كهيئة الجمارك) عن إرادتها في تحريك الدعوى الجزائية في جرائم تمس حقوقها المالية على نحو ما نص عليه القانون (ومن أمثلته: قضايا التهريب الجمركي التي لا تُرفع فيها الدعوى إلا بطلب كتابي من الجهة المختصة).
الأثر: إذا شُرع في التحقيق أو رُفعت الدعوى قبل تقديم الطلب حيث يشترطه القانون، كانت الإجراءات باطلة، ويتعين القضاء بعدم القبول لرفعها بغير الطريق المقرر. وبمجرد تقديم الطلب يرتفع القيد وتباشر جهة التحقيق اختصاصها.
المطلب الثالث: الإذن
الإذن هو موافقة جهة محددة قانونًا على اتخاذ إجراءات الدعوى الجزائية ضد شخص يتمتع بقدر من الاستقلال الوظيفي، وأهم صوره: الحصانة البرلمانية لأعضاء مجلس الأمة، والحصانة القضائية لأعضاء السلطة القضائية.
أولاً: الحصانة البرلمانية (الإجرائية)
لا يجوز — في غير حالة الجرم المشهود — اتخاذ إجراءات التحقيق أو القبض أو الحبس أو التفتيش أو أي إجراء جزائي آخر ضد عضو مجلس الأمة أثناء دور الانعقاد إلا بإذن المجلس. وتُخطر رئاسة المجلس بما يُتخذ من إجراءات، وتعرض طلبات الإذن للفصل فيها خلال الميعاد الذي تحدده لائحته.
زوال الحصانة: تزول في حالات: الجرم المشهود، انتهاء دور الانعقاد، أو صدور إذن من المجلس برفعها. وهي حصانة شخصية إجرائية لا تمتد إلى الأهل أو الأقارب ولا تمنع نظر الدعوى المدنية بصفته مسؤولاً عن الحقوق المدنية.
ثانيًا: الحصانة القضائية
تقتضي حماية استقلال القضاة وأعضاء النيابة العامة إحاطتهم بضمانات إجرائية خاصة. وفي حالة الجرم المشهود، إذا تم ضبط القاضي أو عضو النيابة، يُعرض الأمر خلال أجل محدد على المجلس الأعلى للقضاء للفصل فيما يلزم. أما في غير الجرم المشهود، فلا تُتخذ الإجراءات الجزائية ضدهما إلا وفق الإذن والضوابط التي يقررها قانون تنظيم القضاء.
ملاحظة: تخلف الشكوى أو الطلب أو الإذن — عند اشتراط أيٍ منها — يُبطل ما بُني عليه من إجراءات، ويحول دون قبول الدعوى لرفعها بغير الطريق القانوني. أما أعمال الاستدلال (التحريات) فتبقى جائزة للتحقق من هوية المتهم وطبيعة الواقعة تمهيدًا لاستيفاء القيد.
المبحث الثالث: انقضاء الدعوى الجزائية
الدعوى الجزائية لا تبقى إلى الأبد؛ إذ قد تنقضي بأسباب نص عليها القانون. وانقضاء الدعوى يعني سقوط الحق في الاستمرار فيها أو تحريكها مستقبلًا، سواء أكان ذلك قبل تحريكها أم أثناء السير فيها، ولا يؤثر الانقضاء على ما سبق من إجراءات صحيحة.
المطلب الأول: وفاة المتهم
تنقضي الدعوى الجزائية بوفاة المتهم مهما كانت المرحلة التي وصلت إليها؛ إذ تنتفي الغاية من العقوبة بوفاته. ولا يؤثر ذلك على الدعوى المدنية، إذ يجوز رفعها ضد ورثة المتوفى للمطالبة بالتعويض عن الضرر.
إذا حدثت الوفاة بعد صدور حكم بات بالإدانة، فإن العقوبة تسقط تبعًا لسقوط الدعوى الجزائية، باستثناء الغرامات المالية التي قد يتم تنفيذها في تركته إذا كانت محكومًا بها قبل وفاته.
المطلب الثاني: الصلح
الصلح هو اتفاق بين المجني عليه والمتهم يُنهي الخصومة الجنائية. وقد أجاز المشرع الصلح في بعض الجرائم البسيطة كجرائم السب والقذف البسيط، سرقة الأحوال العائلية، الإتلاف، وبعض الجنح.
يشترط أن يكون الصلح صريحًا أو ثابتًا كتابةً، ويجوز في أي مرحلة من مراحل الدعوى حتى صدور حكم بات. ويترتب على الصلح انقضاء الدعوى الجزائية وانقضاء الدعوى المدنية التابعة، ما لم يُتفق على استمرارها.
المطلب الثالث: التقادم
التقادم هو مضي مدة معينة حددها القانون دون تحريك الدعوى أو دون اتخاذ إجراء فيها بعد تحريكها. المدة تختلف بحسب جسامة الجريمة:
- 15 سنة في الجنايات.
- 5 سنوات في الجنح.
- 3 أشهر في المخالفات.
يترتب على انقضاء المدة سقوط الحق في تحريك الدعوى أو الاستمرار فيها. أما إذا انقضت الدعوى، فلا يمنع ذلك من رفع الدعوى المدنية المستقلة للمطالبة بالتعويض.
المطلب الرابع: أسباب أخرى لانقضاء الدعوى الجزائية
- العفو الشامل: يصدر بقانون، ويؤدي إلى محو الجريمة وآثارها.
- الحكم البات: إذا صدر حكم بات في الموضوع، انقضت الدعوى بالنسبة للواقعة محل الحكم.
- سقوط العقوبة: إذا سقطت العقوبة المحكوم بها لسبب قانوني كالتقادم، لا يبقى محل لمتابعة الدعوى الجزائية.
خاتمة
الدعوى الجزائية أداة الدولة في مواجهة الجريمة. وقد أحاطها المشرّع بضوابط تحريكها وحالات انقضائها، ضمانًا لتحقيق التوازن بين حق المجتمع في العقاب وحقوق الأفراد في الحرية والكرامة.